فصل: تفسير الآية رقم (161):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (155- 158):

{إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158)}.
التفسير:
هنا يلتفت اللّه سبحانه إلى المؤمنين، بعد أن كشف لهم عن موقف المنافقين، الذين يعيشون معهم بهذا الثوب الرقيق الذي يلبسونه من نسيج الإسلام! وفى هذه اللفتة يرى اللّه المسلمين جماعة منهم ضعفوا عند لقاء العدو، فتحول بعضهم عن مكانه إلى حيث السّلب والغنائم، وانهزم بعضهم وفرّ مصعّدا في الجبل.. فهؤلاء جميعا كانوا موضع لوم وعتب بين جماعة المسلمين الذين ثبتوا للعدو، وصمدوا لضرباته.. وقد كثر القول فيهم، وتضاربت الآراء في إيمانهم! وتلك حال جدير بها أن تمزّق وحدة المسلمين، وأن تفتّ في عضدهم، بل وأن تذهب ببعض نفوسهم همّا وكمدا.
وتجيء رحمة اللّه، فتهب هؤلاء الملومين عفوا ومغفرة. وتنقلهم من هذه العزلة الباردة القاتلة، إلى حيث دفء الطمأنينة، وروح السلامة والعافية.
وهذا ما يشير إليه قوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ}.
فهؤلاء الذين تولوا يوم القتال، إنما كان ذلك منهم لما مكّنوا للشيطان من أنفسهم، ببعض ما كسبوا من سيئات! وهذا يعنى أن المؤمن الحريص على إيمانه، الحارس له من نزعات الهوى، هو في حصن حصين من أن ينفذ الشيطان إليه، ويوسوس له، ويستولى على زمام أمره..، إن المعاصي التي يرتكبها المؤمن، هي قذائف مدمرة، تدك حصون إيمانه، فيجد الشيطان طريقه إليه، ثم يرميه الرمية القاتلة.
وفى قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ} إعلان كريم، من رب كريم، بالصلح الجميل، والمغفرة الواسعة، التي تصحح إيمان المؤمن، وتعيد بناءه أقوى قوة، وأشدّ صلاية! وفى قوله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} إعلان آخر عن سعة رحمة اللّه ومغفرته، وأنها تسع العصاة كما تسع الطائعين.. فحلمه يستدعى مغفرته أن تغفر للمذنبين، ولا تأخذهم بما اقترفوا، حتى يعذروا بهذا الصفح وتلك المغفرة، مرة، ومرات.
ونجد فيما كان من رحمة اللّه ومغفرته لهؤلاء الذين استزلّهم الشيطان-
نجد في هذا، كيف كان علم اللّه بما في الإنسان من ضعف، وأنه في معرض الخطأ والزلل، وذلك مما يقيم له عذره عند اللّه، فيمنحه عفوه ومغفرته، فإن هفا هفوة، أو زلّ زلة، أقال اللّه عثرته، وأنهضه من كبوته، وأعاده إلى حظيرة الإسلام، ولو تركه لشرد وضلّ، وهلك.
وقوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا}.
دعوة للمؤمنين أن يتجنبوا وساوس الكافرين الذين لا يؤمنون بقضاء اللّه، ولا يستسلمون لقدره.. فإذا مات لهم ميت أو قتل لهم قتيل، وهو يجاهد في سبيل اللّه- قالوا هذا القول المنكر، الذي حكاه القرآن عنهم:
{لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا}.
وهذا ضلال في الرأى، وكفر باللّه، ودفع لقضائه.. فقد مات من مات وقتل من قتل، حين استوفى كل أجله.
وهذا الضلال في الرأى، إنما هو- فوق أنه كفر باللّه- هو مبعث حسرة وندم، تمتلئ بهما قلوب الكافرين كمدا وألما أن ذهب إخوانهم في هذا الوجه، فكان ذلك سبب موتهم أو قتلهم، ولو أقاموا معهم ما ماتوا وما قتلوا:
{لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ} ولو أنهم عقلوا وآمنوا، لعلموا أن الموت والحياة بيد اللّه، ليس لأحد شأن أو تدبير فيهما: {وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} قد أحاط علمه بكل شيء، ونفذ حكمه في كل شيء! وهذا من شأنه أن يدعو الإنسان إلى التسليم والرضا بالشر والخير، والضرّ والنفع.
والسؤال هنا: كيف يكون منهم قول لأولئك الذين قتلوا أو ماتوا؟
وكيف يسمّون بإخوانهم، وهؤلاء كافرون وأولئك مؤمنون؟
وللإجابة عن الشقّ الثاني من السؤال يتكلف النحاة القول بأن اللام في {لإخوانهم} بمعنى عن والتقدير على هذا: أنهم قالوا عن إخوانهم الذين قتلوا أو ماتوا هذا القول: {لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا} وبهذا التخريج أخذ المفسرون.
ونحن لا نقبل أن تخضع كلمات اللّه لمثل هذا التمحّك الذي يمكن أن يحمل عليه كل كلام.
وننظر فنجد القرآن الكريم يعيد هذا القول مرة أخرى، على لسان هؤلاء القوم.. فيقول تعالى: {الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا} [68: آل عمران] فالتزام القرآن للام التعدية بعد القول في الموضعين، فيه دلالة على إجراء القول على حقيقته، وهو أن يتعدى إلى مفعوله باللام، تقول: قلت له، وقال لى.
وعلى هذا تكون اللام في قوله تعالى: {الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ} في الموضعين- هي لام التعدية، وأنهم فعلا قالوا لإخوانهم وتحدّثوا إليهم!! ولكن كيف هذا؟ وهؤلاء أحياء وأولئك أموات؟
والجواب- واللّه أعلم- أن هؤلاء المنافقين أو الكافرين، حين لم يؤمنوا باللّه، ولم يستسلموا لحكمه، ويرضوا بقضائه- قد تلقوا مصرع من مات منهم في ميدان القتال، أو في طريقه إليه، قد تلقوه جزعين مذهولين، كأنهم يستقبلون أمرا لم يكن في حسابهم أن يقع، لأنهم ينكرون الموت الذي يكون في غير البيت، أو على غير فراش المرض، ويعدّون مثل هذا الموت خيانة لهم ممن مات منهم به، فتشتد حسرتهم، ويتضاعف ألمهم، ويخرج بهم ذلك إلى شيء من الهلوسة والخبل، فيندبون موتاهم هؤلاء، وينادونهم من قريب نداءآت منكرة محمومة: ألم أقل لك يا فلان لا تذهب إلى القتال؟ إنك لو أطعتنى لما أصابك سوء.. ألم أحذرك يا فلان عاقبة الأمر الذي انطلقت إليه؟ إنك لو استمعت إلى نصحى لما قطعت حبل حياتك وأنت في ريعان الصّبا، وفتاء الشباب؟؟
وهكذا يظلون أياما وليالى ينادون، ويناجون، ويندبون موتاهم، ويستحضرونهم في تصوراتهم المريضة، ويرونهم في مصارعهم تنهشهم السباع وتتخطفهم الطير، فيزداد حزنهم، وتشتد حسرتهم: {لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ}! أما الجواب عن الشق الثاني من السؤال، وهو: كيف يسمّون إخوانهم، وهؤلاء كافرون وأولئك مؤمنون- فنقول- واللّه أعلم:
أولا: أن هؤلاء الكافرين كانوا في جماعة المؤمنين أولا، فلما كانت وقعة أحد، ورأوا ما رأوا مما أصاب المسلمين، ساء ظنّهم باللّه الذي آمنوا به، ثم بلغ بهم سوء الظن إلى الارتداد عن الإسلام- فتسميتهم إخوانا لهؤلاء المؤمنين تذكير لهم بالدين الذي كانوا عليه، ودعوة مجدّدة من اللّه إليهم ليدخلوا فيه، بعد أن خرجوا منه.
وثانيا: في هذه التسمية للكافرين بأنهم إخوان لأولئك المؤمنين الذين قتلوا في سبيل اللّه- فضح لهم، ومواجهة صريحة بالحكم الذي حكم اللّه به عليهم وهو أنهم كافرون، وفى هذا ما يجعلهم يتعرفون إلى أنفسهم، ويرون الهاوية التي سقطوا فيها، وهم يقولون هذه المقولات المنكرة- وأنهم إذا كان عند أحدهم شك في أن هذه المقولات التي يقولها لا تدخل به إلى مداخل الكفر، فليعلم أنه يخدع نفسه، ويضلّلها.. فما هو بعد هذا من المؤمنين.
فإما أن يتوب ويرجع إلى اللّه، وإما أن يمضى في طريقه، مع ضلاله وكفره.
وانظر في قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا}.
تجد أن اللّه سبحانه، قد حكم عليهم أولا بأنهم كافرون، ثم أكّد كفرهم هذا بأنهم كانوا إخوانا لأولئك المؤمنين.. وأنهم منذ قالوا هذا القول ليسوا من الإيمان ولا المؤمنين في شيء.
وقوله تعالى: {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} التفات إلى المؤمنين الذين سيقتلون أو سيموتون في سبيل اللّه، وأنهم سيلقون مغفرة من اللّه ورحمة، وأن هذا الذي يلقونه من مغفرة ورحمة خير مما يجمع هؤلاء الكافرون من مال ومتاع.
قوله تعالى: {وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ}.
هو خطاب عام للناس جميعا.. مؤمنين وكافرين- من قتل منهم ومن مات بغير قتل- بأنهم سيحشرون إلى اللّه، ويقفون بين يديه للحساب، وسيوفّى كل منهم حسابه عند اللّه.. إن خيرا فخير، وإن شرا فشرّ.

.تفسير الآية رقم (159):

{فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)}.
التفسير:
هذه لتتة خاصة من اللّه سبحانه إلى رسوله الكريم، وأن اللّه سبحانه وتعالى قد أودع قلب نبيّه الرّحمة بالمؤمنين، ليكون فيهم الأب الودود الرحيم، يرعى أبناءه، ويسدّد خطاهم، ويتقبل من محسنهم، ويعفو عن مسيئهم.. هكذا النبيّ في مجتمع المسلمين.. إنه أب لهذه الأسرة الكبيرة، يسعها قلبه الكبير، بعطفه، وحلمه، ومودته.
{لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ}.
على هذا الخلق الكريم صنعه اللّه وطبعه، وبهذه الرحمة أرسله رحمة وهدى للعالمين.
{فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ} الباء هنا للسببية، أي بسبب ما أودع اللّه فيك من رحمة، كان منك هذا اللّين، وذلك العطف على المؤمنين.
{وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} وفى هذا كشف للطبيعة البشرية، وأن الناس إنما يألفون من يتألفهم، ويحسن إليهم، ويلقاهم بالصفح الجميل.. وعلى غير هذا من كان حادّ الطبع، شرس الخلق، غليظ القلب، لا يقيل عثرة، ولا يغفر زلة.. إنه لن يجد من الناس إلّا المقت والنفور.
وأنه إذا صح لإنسان- وهو غير صحيح- أن يسوّى حسابه مع الناس على هذا الوجه، القائم على الغلظة والشدة، والمنتهى به إلى القطيعة والعزلة- فإنه لا يصح أبدا، ولا يستقيم بحال، لمن كان بمكان الرياسة والقيادة لأية جماعة من الجماعات، كثر عددهم أو قلّ.. فإن الخيط الذي يمسك به كيان الجماعة ويشدّها إليه، هو ما يفيض عليها من قلبه، من رحمة، وحدب، ولين، ولطف، وإلّا تقطعت بينه وبينها الأسباب، ولو كانوا أبناءه وخاصة أهله!
وفى قوله تعالى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} بيان لبعض الأسس التي يقوم عليها منهج التربية، التي يأخذ بها النبيّ جماعة المؤمنين.
وأول هذه الأسس: العفو عن المسيء.. وفى هذا ما يفتح منافذ قلبه ويصفيه من دواعى الحسرة والألم، وينزع منه وساوس السوء والشر.
وثانى هذه الأسس: الاستغفار لهذا المسيء، وطلب الرحمة والمغفرة له من اللّه.. وهذا إحسان بعد إحسان.. يزيد قلبه صفاء، ونفسه إشراقا، وولاء.
فإذا استوت جماعة المسلمين على تلك الصورة الكريمة، فلم يكن فيها مذموم أو مطرود، ولم ينتظم في عقدها النظيم معطوب أو مقهور- كانت جميعها قلبا واحدا، ومشاعر واحدة، تتحرّى خير الجماعة، وتنشد أمنها وسلامتها، وهنا يجيء ثالث الأسس في مكانه الصحيح: {وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} فتعطى المشورة ثمرتها الطيبة، التي هي خلاصة ما في القلوب من خير، ومنخول ما في العقول من رأى.. وهنا يتضح الأمر المنظور إليه، ولم يبق إلا انعقاد العزم عليه، وإمضائه على الوجه المرسوم.. وهذا ما أمر اللّه به في قوله تعالى: {فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} الذين يعتمدون عليه، ويفوضون أمرهم إليه، بعد أن يعطوا هذا الأمر كل ما عندهم من رأى وعزم.

.تفسير الآية رقم (160):

{إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)}.
التفسير:
هذا تعقيب على قوله تعالى في الآية السابقة: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}، فالذين يفوّضون أمرهم إلى اللّه، ويشدّون عزائمهم إليه، ويعلّقون آمالهم به، هم الذين يحبّهم اللّه ويتولاهم، لأنهم أحبّوا اللّه وانتظموا في مجتمع أوليائه.. وإنهم إذ يلوذون بحمى اللّه فإنما يستمسكون بالعروة الوثقى، ويعتصمون بأقوى معتصم، وهم بهذا في ضمان النصر، وعلى طريقه، ولن يغلبهم أحد.. فإن تخلوا عن اللّه، ووكلوا أمرهم إلى حولهم وحيلتهم، فقد آذنوا اللّه أن يتخلّى عنهم، وأن يدعهم إلى أنفسهم، وهذا خذلان مبين، ومن خذله اللّه فلا ناصر له.
وفى قوله تعالى. {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} إشارة مشرقة يرى منها المؤمنون طريقهم في كل أمورهم، وهى طريق التوكل عليه. {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [3: الطلاق].

.تفسير الآية رقم (161):

{وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (161)}.
التفسير:
الغلّ: أخذ الشيء خفية.. يقال: غلّ الشيء إغلالا: إذا أخذه خلسة، ويقال: أغلّ الجازر إذا سرق من اللحم شيئا مع الجلد، والغلّ: الحقد الكامن في الصدور، والغلّ: الخيانة، ومنه قوله صلّى اللّه عليه وسلّم: {من بعثناه على عمل فغلّ شيئا جاء يوم القيامة يحمله على عنقه}.
وقوله صلّى اللّه عليه وسلّم: «هدايا الولاة غلول».
والذي عليه المفسرون في هذه الآية أنها نزلت في قطيفة حمراء اختفت من الغنائم يوم بدر، فقال بعض المنافقين لعل النبيّ أخذها! وقيل إنها نزلت في أحداث أحد، حيث ترك جماعة الرماة مكانهم الذي أقامهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فيه، وذلك حين رأوا الهزيمة في المشركين، وقد امتدت أيدى بعض المسلمين إلى ما تركوا من متاع وسلاح، فقال الرماة:
لعلّ رسول اللّه لا يقسم الغنائم بيننا كما فعل في غنائم بدر، ويقول كما قال يومها: «من أخذ شيئا فهو له» فيذهب إخواننا بالغنائم، وليس لنا منها شيء.. فتركوا مكانهم، واندفعوا نحو الغنائم، يأخذون نصيبهم منها، فكان الذي كان! والرأى الأول بعيد.. إذا كان قد مضى عام على معركة بدر، ولو كان لقولة المشركين يومئذ أثر لما تركت هذه الفرية تعيش في الناس عاما دون أن ينزل قرآن في تفنيدها، وتكذيب مفتريها.
والخبر الثاني ضعيف، ووجه ضعفه أن المسلمين كانوا يعلمون في أحد حكم اللّه فيما يقع لأيديهم من مغانم، حيث كانت سورة الأنفال قد نزلت في أعقاب بدر، وفيها قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [41: الأنفال].
والرأى عندنا- واللّه أعلم- أن الغلّ هذا من الحقد، واشتمال النفس على البغضاء للناس.. وهذا ما لا يكون من نبىّ أبدا، إذ كانت مهمة الأنبياء نزع ما في الصدور من عداوات وأحقاد، وغسل ما في النفوس مما تنطوى عليه بغضاء وضغينة.. إنهم أساة الإنسانية من هذا الداء- داء الحقد الدفين- الذي إن شاع في جماعة أكلها كما تأكل النار الحطب، أو فشا في أمة قضى عليها، وحصدها، كما يحصد الوباء النفوس!
والمناسبة هنا قريبة، والموقف داع إلى إلفات النبيّ الكريم إلى هذا الداء، وتحذيره منه.
ففى أحداث أحد، وفى أعقابها، فرغ النّاس من المعركة، وشغلوا بالحديث عنها، والتعليق على مواقف الناس منها..!
وفى المسلمين من خالف رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، وتخلّف عن القتال في معركة أحد.
وفى المسلمين من تحوّل عن موقفه الذي أمره الرسول بالوقوف عنده، سواء كان للمسلمين النصر، أو كانت عليهم الهزيمة! وفى المسلمين من قاتل، وأبلى في القتال.. ثم حين استشعر الهزيمة انهزم، وأعطى العدوّ ظهره.
وفى جوانب المعركة، وعلى حواشيها.. كلام يدور، تحرّكه أفواه المنافقين، وتلتوى به ألسنتهم، وتتغامز معه عيونهم.
هذا، والنبىّ الكريم يسمع، ويرى كلّ هذا، ويسوؤه أن يكون في أصحابه هذا الذي يسمعه ويراه.. فيحزن لذلك ويأسى.
وقد صفح اللّه عن المؤمنين وعفا عنهم، وشملهم جميعا برحمته وغفرانه.
وكان على النبيّ أيضا أن يصفح ويغفر.. فجاء أمر اللّه سبحانه وتعالى، يدعوه إلى الصفح ويغريه به، بعد أن يرى النبيّ الصورة الكريمة التي له عنده اللّه، والتي ينبغى أن يكون عليها، وأن يحتفظ بها على هذا الوضع العلوىّ الوضيء.
{فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}.
ولقد عفا الرسول عنهم، واستغفر لهم، وشاورهم في كل أمر ذى بال يعرض له.
ولكن النبيّ- وهو بشر- قد تطلع عليه صور من أحداث أحد، فتحرك أشجانا، وتثير أسى.
فجاء قوله تعالى: {وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ} ليشنّع على الحقد، وليستبعد وقوعه من أي نبىّ من أنبياء اللّه، وليجعله جرما من أغلظ الجرائم، حتى ليلتزم صاحبه، ويصحبه إلى يوم القيامة، كما التزمه وصحبه في صدره، وبين جنبيه! وما أروع هذا العطف الإلهى الذي يفاض على النبيّ الكريم، وهو في مقام التأديب، والتحذير من أن يحمل قلبه غلا، وحقدا.. فلا يواجهه المولى سبحانه وتعالى بهذا الخطاب، ولا يلقاه به وحده- لطفا وكرما- بل يتجه الأمر إلى الأنبياء جميعا.. {وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} فما أعظم هذا المقام، وما أكرم تلك المنزلة، التي نزلها محمد من منازل الرضوان والإحسان عند ربّه.